الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
قال: [ والعدل من لم تظهر منه ريبة وهذا قول إبراهيم النخعي, وإسحاق ] وجملته أن العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله قال القاضي: يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام أما الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة فإن الله تعالى أمر أن لا تقبل شهادة القاذف, فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة ولا يجرحه عن العدالة فعل صغيرة لقول الله تعالى: في اللعب: كل لعب فيه قمار فهو محرم, أي لعب كان وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته وما خلا من القمار, وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما فمنه ما هو محرم, ومنه ما هو مباح فأما المحرم فاللعب بالنرد وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي وقال بعضهم: هو مكروه غير محرم ولنا, ما روى أبو موسى قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله) وروى بريدة, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه) رواهما أبو داود وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم إذا ثبت هذا, فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته سواء لعب به قمارا أو غير قمار وهذا قول أبي حنيفة, ومالك وظاهر مذهب الشافعي قال مالك: من لعب بالنرد والشطرنج فلا أرى شهادته طائلة لأن الله تعالى قال: {فماذا بعد الحق إلا الضلال) وهذا ليس من الحق, فيكون من الضلال. فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم إلا أن النرد آكد منه في التحريم لورود النص في تحريمه لكن هذا في معناه, فيثبت فيه حكمه قياسا عليه وذكر القاضي أبو الحسين ممن ذهب إلى تحريمه علي بن أبي طالب وابن عمر, وابن عباس وسعيد بن المسيب والقاسم وسالما وعروة, ومحمد بن علي بن الحسين ومطرا الوراق ومالكا وهو قول أبي حنيفة وذهب الشافعي إلى إباحته وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة, وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير واحتجوا بأن الأصل الإباحة ولم يرد بتحريمها نص, ولا هي في معنى المنصوص عليه فتبقى على الإباحة ويفارق الشطرنج النرد من وجهين أحدهما أن في الشطرنج تدبير الحرب, فأشبه اللعب بالحراب والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل والثاني, أن المعول في النرد ما يخرجه الكعبتان فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج على حذقه وتدبيره, فأشبه المسابقة بالسهام ولنا قول الله تعالى: واللاعب بالحمام يطيرها لا شهادة له وهذا قول أصحاب الرأي وكان شريح لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام وذلك لأنه سفه ودناءة وقلة مروءة ويتضمن أذى الجيران بطيره, وإشرافه على دورهم ورميه إياها بالحجارة وقد (رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا يتبع حماما فقال: شيطان يتبع شيطانة) وإن اتخذ الحمام لطلب فراخها, أو لحمل الكتب أو للأنس بها من غير أذى يتعدى إلى الناس لم ترد شهادته وقد روى عبادة بن الصامت (أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فشكا إليه الوحشة, فقال: اتخذ زوجا من حمام). فأما المسابقة المشروعة، بالخيل وغيرها من الحيوانات، أو على الأقدام، فمباحة لا دناءة فيها، ولا ترد به الشهادة، وقد ذكرنا مشروعية ذلك في باب المسابقة. وكذلك ما في معناه من الثقاف، واللعب بالحراب. وقد لعب الحبشة بالحراب بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقامت عائشة خلفه تنظر إليهم، وتستتر به، حتى ملت. ولأن في هذا تعلما للحرب، فإنه من آلاته، فأشبه المسابقة بالخيل والمناضلة، وسائر اللعب، إذا لم يتضمن ضررا، ولا شغلا عن فرض، فالأصل إباحته، فما كان منه فيه دناءة يترفع عنه ذوو المروءات، منع الشهادة إذا فعله ظاهرا، وتكرر منه، وما كان منه لا دناءة فيه، لم ترد بها الشهادة بحال. في الملاهي: وهي على ثلاثة أضرب محرم وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها, والعود والطنبور والمعزفة, والرباب ونحوها فمن أدام استماعها, ردت شهادته لأنه يروي عن علي رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا ظهرت في أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء) فذكر منها إظهار المعازف والملاهي وقال سعيد: ثنا فرج بن فضالة عن علي بن يزيد, عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله بعثني رحمة للعالمين, وأمرني بمحق المعازف والمزامير لا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا تعليمهن ولا التجارة فيهن وثمنهن حرام) يعني الضاربات وروى نافع, قال: (سمع ابن عمر مزمارا قال: فوضع إصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق, وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئا؟ قال: فقلت: لا قال: فرفع إصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمع مثل هذا, فصنع مثل هذا) رواه الخلال في " جامعه " من طريقين ورواه أبو داود في " سننه ", وقال: حديث منكر وقد احتج قوم بهذا الخبر على إباحة المزمار وقالوا: لو كان حراما لمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عمر من سماعه ومنع ابن عمر نافعا من استماعه, ولأنكر على الزامر بها قلنا: أما الأول فلا يصح لأن المحرم استماعها دون سماعها والاستماع غير السماع ولهذا فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع والمستمع, ولم يوجبوا على من سمع شيئا محرما سد أذنيه وقال الله تعالى:
واختلف أصحابنا في الغناء فذهب أبو بكر الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز إلى إباحته قال أبو بكر عبد العزيز: والغناء والنوح معنى واحد, مباح ما لم يكن معه منكر ولا فيه طعن وكان الخلال يحمل الكراهة من أحمد على الأفعال المذمومة لا على القول بعينه وروي عن أحمد, أنه سمع عند ابنه صالح قوالا فلم ينكر عليه وقال له صالح: يا أبت, أليس كنت تكره هذا؟ فقال: إنه قيل لي: إنهم يستعملون المنكر وممن ذهب إلى إباحته من غير كراهة سعد بن إبراهيم وكثير من أهل المدينة, والعنبري لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر فقال: مزمور الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دعهما فإنها أيام عيد) متفق عليه وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: الغناء زاد الراكب واختار القاضي أنه مكروه غير محرم وهو قول الشافعي قال: هو من اللهو المكروه وقال أحمد: الغناء ينبت النفاق في القلب, لا يعجبني وذهب آخرون من أصحابنا إلى تحريمه قال أحمد: في من مات وخلف ولدا يتيما وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها, تباع ساذجة قيل له: إنها تساوي مغنية ثلاثين ألفا وتساوي ساذجة عشرين دينارا قال: لا تباع إلا على أنها ساذجة واحتجوا على تحريمه بما روي عن ابن الحنفية في قوله تعالى:
فأما الحداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل فمباح, لا بأس به في فعله واستماعه لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال, وكان أنجشة مع النساء فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن رواحة: حرك بالقوم فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة, فأعنقت الإبل فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنجشة: رويدك رفقا بالقوارير) يعني النساء وكذلك نشيد الأعراب, وهو النصب لا بأس به وسائر أنواع الإنشاد, ما لم يخرج إلى حد الغناء وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع إنشاد الشعر فلا ينكره والغناء من الصوت, ممدود مكسور والغنى من المال مقصور والحداء, مضموم ممدود كالدعاء والرعاء ويجوز الكسر, كالنداء والهجاء والغذاء.
والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن من الشعر لحكما) وكان يضع لحسان منبرا يقوم عليه فيهجو من هجا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين. وأنشده كعب بن زهير قصيدة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ** في المسجد وقال له عمه العباس: يا رسول الله, إني أريد أن أمتدحك فقال: قل لا يفضض الله فاك فأنشده: من قبلها طبت في الظلال ** وفي مستودع حيث يخصف الورق
عمرو بن الشريد: (أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أمعك من شعر أمية؟ قلت: نعم فأنشدته بيتا فقال: هيه فأنشدته بيتا, فقال: هيه حتى أنشدته مائة قافية) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين: أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب وقد اختلف في هذا فقيل: ليس بشعر وإنما هو كلام موزون وقيل: بل هو شعر, ولكنه بيت واحد قصير فهو كالنثر ويروى أن أبا الدرداء قيل له: ما من أهل بيت في الأنصار إلا وقد قال الشعر قال: وأنا قد قلت: يريد المرء أن يعطى مناه ** ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي ** وتقوى الله أفضل ما استفادا
وليس في إباحة الشعر خلاف, وقد قاله الصحابة والعلماء والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة والعربية والاستشهاد به في التفسير, وتعرف معاني كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- ويستدل به أيضا على النسب والتاريخ, وأيام العرب ويقال: الشعر ديوان العرب فإن قيل: فقد قال الله تعالى: وراهن ربى مثل ما قد ورينني ** وأحمي على أكبادهن المكاويا قلنا: أما الآية فالمراد بها من أسرف وكذب بدليل وصفه لهم بقوله: وعمرة من سروات النساء ** تنفح بالمسك أردانها وكان عمران بن طلحة في مجلس فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه, فسكتوه من أجله فقال: دعوه فإن قائل هذا الشعر, كان زوجها فأما الشاعر فمتى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب أو يقذف مسلما أو مسلمة, فإن شهادته ترد وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل: أعظم الناس ذنبا رجل يهاجي رجلا, فيهجو القبيلة بأسرها وقد روينا أن أبا دلامة شهد عند قاض أظنه ابن أبي ليلى فخاف أن يرد شهادته فقال: إن الناس غطوني تغطيت عنهم وإن بحثوا عني ففيهم مباحث فقال القاضي: ومن يبحثك يا أبا دلامة وغرم المال من عنده, ولم يظهر أنه رد شهادته. في قراءة القرآن بالألحان: أما قراءته من غير تلحين فلا بأس به وإن حسن صوته, فهو أفضل فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (زينوا أصواتكم بالقرآن) وروي: (زينوا القرآن بأصواتكم) وقال: (لقد أوتى أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود) وروي (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي موسى: لقد مررت بك البارحة, وأنت تقرأ ولقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود فقال أبو موسى: لو أعلم أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا) وروي (أن عائشة رضي الله عنها أبطأت على النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة, فقال: أين كنت يا عائشة؟ فقالت: يا رسول الله كنت أستمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع أحدا يقرأ أحسن من قراءته فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستمع قراءته, ثم قال: هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا) وقال صالح: قلت لأبي: " زينوا القرآن بأصواتكم " ما معناه؟ قال: أن يحسنه وقيل له: ما معنى: " من لم يتغن بالقرآن " قال: يرفع صوته به وهكذا قال الشافعي وقال الليث: يتحزن به ويتخشع به, ويتباكى به وقال ابن عيينة وعمرو بن الحارث ووكيع: يستغنى به فأما القراءة بالتلحين, فينظر فيه فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات فلا بأس به فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قرأ ورجع, ورفع صوته قال الراوي: لولا أن يجتمع الناس على لحكيت لكم قراءته وقال عليه السلام: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وقال: (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن, يجهر به) ومعنى أذن: استمع قال الشاعر: في سماع يأذن الشيخ له ** وقال القاضي: هو مكروه على كل حال ونحوه قول أبي عبيد وقال معنى قوله: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) أي: يستغنى به قال الشاعر: وكنت امرأ زمنا بالعراق ** عفيف المناخ كثير التغني
قال: ولو كان من الغناء بالصوت لكان من لم يغن بالقرآن ليس من النبي -صلى الله عليه وسلم- وروي نحو هذا التفسير عن ابن عيينة وقال القاضي أحمد بن محمد البرتي: هذا قول من أدركنا من أهل العلم وقال الوليد بن مسلم: يتغنى بالقرآن, يجهر به وقيل: يحسن صوته به والصحيح أن هذا القدر من التلحين لا بأس به لأنه لو كان مكروها لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح حمله على التغني في حديث: (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن) على الاستغناء لأن معنى أذن: استمع, وإنما تستمع القراءة ثم قال: يجهر به والجهر صفة القراءة لا صفة الاستغناء فأما إن أفرط في المد والتمطيط وإشباع الحركات, بحيث يجعل الضمة واوا والفتحة ألفا والكسرة ياء, كره ذلك ومن أصحابنا من يحرمه لأنه يغير القرآن ويخرج الكلمات عن وضعها ويجعل الحركات حروفا وقد روينا عن أبي عبد الله, أن رجلا سأله عن ذلك فقال له: ما اسمك؟ قال: محمد قال: أيسرك أن يقال لك: يا موحامد؟ قال: لا فقال: لا يعجبني أن يتعلم الرجل الألحان إلا أن يكون حرمه مثل حرم أبي موسى فقال له رجل: فيكلمون؟ فقال: لا كل ذا واتفق العلماء على أنه تستحب قراءة القرآن بالتحزين والترتيل والتحسين وروى بريدة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اقرءوا القرآن بالحزن, فإنه نزل بالحزن) وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله قال لرجل: لو قرأت وجعل أبو عبد الله ربما تغرغرت عينه وقال زهير بن حرب: كنا عند يحيى القطان فجاء محمد بن سعيد الترمذي فقال له يحيى: اقرأ فقرأ, فغشي على يحيى حتى حمل فأدخل وقال محمد بن صالح العدوي: قرأت عند يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه حتى فاته خمس صلوات. ولا تقبل شهادة الطفيلي وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا وذلك لأنه يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من أتى إلى طعام لم يدع إليه دخل سارقا, وخرج معيرا) ولأنه يأكل محرما ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة فإن لم يتكرر هذا منه, لم ترد شهادته لأنه من الصغائر. ومن سأل من غير أن تحل له المسألة فأكثر ردت شهادته لأنه فعل محرما, وأكل سحتا وأتى دناءة وقد روى قبيصة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل أصابته جائحة, فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش, ورجل أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش, أو سدادا من عيش ورجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها, ثم يمسك فما سوى ذلك من المسألة فهو سحت يأكله صاحبه سحتا يوم القيامة) رواه مسلم فأما السائل ممن تباح له المسألة, فلا ترد شهادته بذلك إلا أن يكون أكثر عمره سائلا أو يكثر ذلك منه, فينبغي أن ترد شهادته لأن ذلك دناءة وسقوط مروءة ومن أخذ من الصدقة ممن يجوز له الأخذ من غير مسألة لم ترد شهادته لأنه فعل جائز لا دناءة فيه وإن أخذ منها ما لا يجوز له وتكرر ذلك منه, ردت شهادته لأنه مصر على الحرام. ومن فعل شيئا من الفروع مختلفا فيه معتقدا إباحته لم ترد شهادته كالمتزوج بغير ولي, أو بغير شهود وآكل متروك التسمية وشارب يسير النبيذ نص عليه أحمد, في شارب النبيذ يحد ولا ترد شهادته وبهذا قال الشافعي وقال مالك: ترد شهادته لأنه فعل ما يعتقد الحاكم تحريمه, فأشبه المتفق على تحريمه ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع, فلم يكن بعضهم يعيب من خالفه ولا يفسقه ولأنه نوع مختلف فيه, فلم ترد شهادة فاعله كالذي يوافقه عليه الحاكم وإن فعل ذلك معتقدا تحريمه ردت شهادته به إذا تكرر وقال أصحاب الشافعي: لا ترد شهادته به لأنه فعل لا ترد به شهادة بعض الناس, فلا ترد به شهادة البعض الآخر كالمتفق على حله ولنا أنه فعل يحرم على فاعله, ويأثم به فأشبه المجمع على تحريمه وبهذا فارق معتقد حله وقد روي عن أحمد, في من يجب عليه الحج فلا يحج: ترد شهادته وهذا يحمل على من اعتقد وجوبه على الفور فأما من يعتقد أنه على التراخى ويتركه بنية فعله فلا ترد شهادته, كسائر ما ذكرنا ويحتمل أن ترد شهادته مطلقا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من قدر على الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا) وقال عمر: لقد هممت أن أنظر في الناس فمن وجدته يقدر على الحج ولا يحج, ضربت عليه الجزية ثم قال: ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. قال: [ وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب, في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم ] وجملته أنه إذا شهد بوصية المسافر الذي مات في سفره شاهدان من أهل الذمة, قبلت شهادتهما إذا لم يوجد غيرهما ويستحلفان بعد العصر ما خانا ولا كتما, ولا اشتريا به ثمنا قليلا
قال: [ ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك ] مذهب أبي عبد الله أن شهادة أهل الكتاب لا تقبل في شيء على مسلم ولا كافر غير ما ذكرنا رواه عنه نحو من عشرين نفسا وممن قال: لا تقبل شهادتهم الحسن, وابن أبي ليلى والأوزاعي ومالك, والشافعي وأبو ثور ونقل حنبل عن أحمد, أن شهادة بعضهم على بعض لم تقبل وخطأه الخلال في نقله هذا وكذلك صاحبه أبو بكر قال: هذا غلط لا شك فيه وقال ابن حامد: بل المسألة على روايتين وقال أبو حفص البرمكي: تقبل شهادة السبي بعضهم لبعض في النسب, إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه والمذهب الأول والظاهر غلط من روى خلاف ذلك وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن شهادة بعضهم على بعض تقبل, ثم اختلفوا فمنهم من قال: الكفر كله ملة واحدة فتقبل شهادة اليهودي على النصراني والنصراني على اليهودي وهذا قول حماد, وسوار والثوري والبتي, وأبي حنيفة وأصحابه وعن قتادة والحكم, وأبي عبيد وإسحاق: تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض ولا تقبل شهادة يهودي على نصراني, ولا نصراني على يهودي وروي عن الزهري والشعبي كقولنا, وكقولهم واحتجوا بما روي عن جابر (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض) رواه ابن ماجه ولأن بعضهم يلي على بعض فتقبل شهادة بعضهم على بعض كالمسلمين ولنا, قول الله تعالى: قال: [ ولا تقبل شهادة خصم ولا جار إلى نفسه, ولا دافع عنها ] أما الخصم فهو نوعان أحدهما كل من خاصم في حق لا تقبل شهادته فيه كالوكيل لا تقبل شهادته فيما هو وكيل فيه, ولا الوصي فيما هو وصي فيه ولا الشريك فيما هو شريك فيه ولا المضارب بمال أو حق للمضاربة ولو غصب الوديعة من المودع, وطالب بها لم تقبل شهادته فيها وكذلك ما أشبه هذا لأنه خصم فيه, فلم تقبل شهادته به كالمالك والثاني العدو, فشهادته غير مقبولة على عدوه في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ربيعة والثوري, وإسحاق ومالك والشافعي ويريد بالعداوة ها هنا العداوة الدنيوية, مثل أن يشهد المقذوف على القاذف والمقطوع عليه الطريق على القاطع والمقتول وليه على القاتل, والمجروح على الجارح والزوج يشهد على امرأته بالزنى فلا تقبل شهادته لأنه يقر على نفسه بعداوته لها, لإفسادها فراشه فأما العداوة في الدين كالمسلم يشهد على الكافر أو المحق من أهل السنة يشهد على مبتدع, فلا ترد شهادته لأن العدالة بالدين والدين يمنعه من ارتكاب محظور دينه وقال أبو حنيفة: لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخل بالعدالة فلا تمنع الشهادة, كالصداقة ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية, ولا ذي غمر على أخيه) رواه أبو داود الغمر: الحقد ولأن العداوة تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة وتخالف الصداقة فإن في شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه, وبيع آخرته بدنيا غيره وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه, فافترقا فإن قيل: فلم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة؟ قلنا: العداوة ها هنا دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور ولا أن يترك دينه بموجب دينه. فإن شهد على رجل بحق, فقذفه المشهود عليه لم ترد شهادته بذلك لأننا لو أبطلنا شهادته بهذا لتمكن كل مشهود عليه من إبطال شهادة الشاهد بأن يقذفه ويفارق ما لو طرأ الفسق بعد أداء الشهادة, وقبل الحكم فإن رد الشهادة فيه لا يفضي إلى ذلك بل إلى عكسه, ولأن طريان الفسق يورث تهمة في حال أداء الشهادة لأن العادة إسراره فظهوره بعد أداء الشهادة يدل على أنه كان يسره حالة أدائها, وها هنا حصلت العداوة بأمر لا تهمة على الشاهد فيه وأما المحاكمة في الأموال فليست بعداوة تمنع الشهادة في غير ما حاكم فيه وأما قوله: ولا جار إلى نفسه فإن الجار إلى نفسه هو الذي ينتفع بشهادته ويجر إليه بها نفعا كشهادة الغرماء للمفلس بدين أو عين, وشهادتهم للميت بدين أو مال فإنه لو ثبت للمفلس أو الميت دين أو مال تعلقت حقوقهم به, ويفارق ما لو شهد الغرماء لحي لا حجر عليه بمال فإن شهادتهم تقبل لأن حقهم لا يتعلق بماله وإنما يتعلق بذمته فإن قيل: إذا كان معسرا سقطت عنه المطالبة, فإذا شهدا له بمال ملكا مطالبته فجروا إلى أنفسهم نفعا قلنا: لم تثبت المطالبة بشهادتهم, إنما تثبت بيساره وإقراره لدعواه الحق الذي شهدوا به ولا تقبل شهادة الوارث للموروث بالجرح قبل الاندمال لأنه قد يسري الجرح إلى نفسه فتجب الدية لهم بشهادتهم ولا شهادة الشفيع ببيع شقص له فيه الشفعة ولا شهادة السيد لعبده المأذون له في التجارة ولا لمكاتبه قال القاضي: ولا تقبل شهادة الأجير لمن استأجره وقال: نص عليه أحمد فإن قيل: فلم قبلتم شهادة الوارث لموروثه, مع أنه إذا مات ورثه فقد جر إلى نفسه بشهادته نفعا؟ قلنا: لا حق له في ماله حين الشهادة وإنما يحتمل أن يتجدد له حق, وهذا لا يمنع قبول الشهادة كما لو شهد لامرأة يحتمل أن يتزوجها أو لغريم له بمال يحتمل أن يوفيه منه, أو يفلس فيتعلق حقه به وإنما المانع ما يحصل للشاهد به نفع حال الشهادة فإن قيل: فقد منعتم قبول شهادته لموروثه بالجرح قبل الاندمال لجواز أن يتجدد له حق, وإن لم يكن حق في الحال فإن قلتم: قد انعقد سبب حقه قلنا: يبطل بالشاهد لموروثه المريض بحق فإن شهادته تقبل مع انعقاد سبب استحقاقه بدليل أن عطيته له لا تنفذ, وعطيته لغيره تقف على الخروج من الثلث قلنا: إنما منعنا الشهادة لموروثه بالجرح لأنه ربما أفضى إلى الموت فتجب الدية للوارث الشاهد به ابتداء فيكون شاهدا لنفسه, موجبا له بها حقا ابتداء بخلاف الشاهد للمريض أو المجروح بمال فإنه إنما يجب للمشهود له, ثم يجوز أن ينتقل ويجوز أن لا ينتقل فلم يمنع الشهادة له, كالشهادة لغريمه فإن قيل: فقد أجزتم شهادة الغريم لغريمه بالجرح قبل الاندمال كما أجزتم شهادته له بماله؟ قلنا: إنما أجزناها لأن الدية لا تجب للشاهد ابتداء إنما تجب للقتيل, أو لورثته ثم يستوفى الغريم منها فأشبهت الشهادة له بالمال وأما الدافع عن نفسه, فمثل أن يشهد المشهود عليه بجرح الشهود أو تشهد عاقلة القاتل خطأ بجرح الشهود الذين شهدوا به لما فيه من دفع الدية عن أنفسهم فإن كان الشاهدان بالجرح فقيرين, احتمل قبول شهادتهما لأنهما لا يحملان شيئا من الدية واحتمل أن لا تقبل لأنه يخاف أن يوسرا قبل الحول فيحملا وكذلك الخلاف في البعيد الذي لا يحمل لبعده فإنه لا يأمن أن يموت من هو أقرب منه قبل الحول, فيحمل ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق أو الإبراء منه ولا شهادة أحد الشفيعين على الآخر بإسقاط شفعته لأنه يوفر الحق على نفسه ولا شهادة بعض غرماء المفلس على بعضهم بإسقاط دينه أو استيفائه ولا بعض من أوصى له بمال على آخر, بما يبطل وصيته إذا كانت وصيته تحصل بها مزاحمته إما لضيق الثلث عنهما أو لكون الوصيتين بمعين فهذا وأشباهه لا تقبل الشهادة فيه لأن الشاهد به متهم لما يحصل بشهادته من نفع نفسه, ودفع الضرر عنها فيكون شاهدا لنفسه وقد قال الزهري: مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم, ولا ظنين والظنين: المتهم وروى طلحة بن عبد الله بن عوف قال: (قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا شهادة لخصم ولا ظنين) وممن رد شهادة الشريك لشريكه شريح, والنخعي والثوري والشافعي, وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا. وإن شهد الشريك لشريكه في غير ما هو شريك فيه أو الوكيل لموكله, في غير ما هو وكيل فيه أو العدو لعدوه أو الوارث لموروثه بمال, أو بالجرح بعد الاندمال أو شهد أحد الشفيعين بعد أن أسقط شفعته على الآخر, بإسقاط شفعته أو أحد الوصيين بعد سقوط وصيته على الآخر بما يسقط وصيته, أو كانت إحدى الوصيتين لا تزاحم الأخرى ونحو ذلك مما لا تهمة فيه قبلت لأن المقتضى لقبول الشهادة متحقق, والمانع منتف فوجب قبولها عملا بالمقتضى. قال: [ ولا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة ] وجملته أنه يعتبر في الشاهد أن يكون موثوقا بقوله لتحصل غلبة الظن بصدقه ولذلك اعتبرنا العدالة, ومن يكثر غلطه وتغفله لا يوثق بقوله لاحتمال أن يكون من غلطاته فربما شهد على غير من استشهد عليه, أو لغير من شهد له أو بغير ما استشهد به وإذا كان مغفلا, فربما استزله الخصم بغير شهادته فلا تحصل الثقة بقوله ولا يمنع من الشهادة وجود غلط نادر أو غفلة نادرة لأن أحدا لا يسلم من ذلك, فلو منع ذلك الشهادة لانسد بابها فاعتبرنا الكثرة في المنع, كما اعتبرنا كثرة المعاصي في الإخلال بالعدالة.
مسألة: قال: [ وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت ] روي هذا عن علي وابن عباس وبه قال ابن سيرين, وعطاء والشعبي والزهري, ومالك وابن أبي ليلى وإسحاق, وابن المنذر وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تقبل شهادته وروي ذلك عن النخعي وأبي هاشم, واختلف عن الحسن وإياس وابن أبي ليلى وأجاز الشافعي شهادته بالاستفاضة والترجمة, وإذا أقر عند أذنه ويد الأعمى على رأسه ثم ضبطه حتى حضر عند الحاكم فشهد عليه, ولم يجزها في غير ذلك لأن من لا تجوز شهادته على الأفعال لا تجوز على الأقوال كالصبي, ولأن الأصوات تشتبه فلا يحصل اليقين فلم يجز أن يشهد بها, كالخط ولنا قوله تعالى:
فإن تحمل الشهادة على فعل, ثم عمى جاز أن يشهد به إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا تجوز شهادته أصلا لأنه لا يجوز أن يكون حاكما ولنا, ما تقدم ولأن العمى فقد حاسة لا تخل بالتكليف فلم يمنع قبول الشهادة كالصمم ويفارق الحكم, فإنه يعتبر له من شروط الكمال ما لا يعتبر للشهادة ولذلك يعتبر له السمع والاجتهاد وغيرهما فإن لم يعرف المشهود عليه باسمه ونسبه, لكن تيقن صوته لكثرة إلفه له صح أن يشهد به أيضا لما ذكرنا في أول المسألة وإن شهد عند الحاكم ثم عمى قبل الحكم بشهادته, جاز الحكم بها وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: لا يجوز الحكم بها لأنه معنى يمنع قبول الشهادة مع صحة النطق, فمنع الحكم بها كالفسق ولنا أنه معنى طرأ بعد أداء الشهادة, لا يورث تهمة في حال الشهادة فلم يمنع قبولها كالموت وفارق الفسق فإنه يورث تهمة حال الشهادة.
ولا تجوز شهادة الأخرس بحال نص عليه أحمد رضي الله عنه فقال: لا تجوز شهادة الأخرس قيل له: وإن كتبها؟ قال: لا أدري وهذا قول أصحاب الرأي وقال مالك, والشافعي وابن المنذر: تقبل إذا فهمت إشارته لأنها تقوم مقام نطقه في أحكامه من طلاقه, ونكاحه وظهاره وإيلائه, فكذلك في شهادته واستدل ابن المنذر بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار وهو جالس في الصلاة إلى الناس وهم قيام أن اجلسوا فجلسوا ولنا أنها شهادة بالإشارة, فلم تجز كإشارة الناطق يحققه أن الشهادة يعتبر فيها اليقين, ولذلك لا يكتفى بإيماء الناطق ولا يحصل اليقين بالإشارة وإنما اكتفى بإشارته في أحكامه المختصة به للضرورة, ولا ضرورة ها هنا ولهذا لم يجز أن يكون حاكما ولأن الحاكم لا يمضي حكمه إذا وجد حكمه بخطه تحت ختمه, ولم يذكر حكمه والشاهد لا يشهد برؤية خطه فلأن لا حكم بخط غيره أولى وما استدل به ابن المنذر لا يصح فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قادرا على الكلام, وعمل بإشارته في الصلاة ولو شهد الناطق بالإيماء والإشارة لم يصح إجماعا فعلم أن الشهادة مفارقة لغيرها من الأحكام.
قال: [ ولا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا, للولد وإن سفل ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا ] ظاهر المذهب أن شهادة الوالد لولده لا تقبل, ولا لولد ولده وإن سفل وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات ولا تقبل شهادة الولد لوالده, ولا لوالدته ولا جده ولا جدته من قبل أبيه وأمه وإن علوا, وسواء في ذلك الآباء والأمهات وآباؤهما وأمهاتهما وبه قال شريح والحسن, والشعبي والنخعي ومالك, والشافعي وإسحاق وأبو عبيد, وأصحاب الرأي وروي عن أحمد -رحمه الله- رواية ثانية, تقبل شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب له لأن مال الابن في حكم مال الأب له أن يتملكه إذا شاء, فشهادته له شهادة لنفسه أو يجر بها لنفسه نفعا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنت ومالك لأبيك) وقال: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن أولادكم من أطيب كسبكم, فكلوا من أموالهم) ولا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه وعنه رواية ثالثة تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه في ما لا تهمة فيه, كالنكاح والطلاق والقصاص, والمال إذا كان مستغنى عنه لأن كل واحد منهما لا ينتفع بما يثبت للآخر من ذلك فلا تهمة في حقه وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شهادة كل واحد منهما للآخر مقبولة وروي ذلك عن شريح وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو ثور, والمزني وداود وإسحاق, وابن المنذر لعموم الآيات ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع فتقبل شهادته فيه, كالأجنبي ولنا ما روى الزهري عن عروة, عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه, ولا ظنين في قرابة ولا ولاء) والظنين: المتهم والأب يتهم لولده لأن ماله كما له بما ذكرناه ولأن بينهما بعضية, فكأنه يشهد لنفسه ولهذا قال عليه السلام: (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها) ولأنه متهم في الشهادة لولده, كتهمة العدو في الشهادة على عدوه والخبر أخص من الآيات فتخص به.
فأما شهادة أحدهما على صاحبه, فتقبل نص عليه أحمد وهذا قول عامة أهل العلم ولم أجد عن أحمد في " الجامع " فيه خلافا وذلك لقول الله تعالى: وإن شهد اثنان بطلاق ضرة أمهما وقذف زوجها لها, قبلت شهادتهما لأن حق أمهما لا يزداد به وسواء كان المشهود عليه أباهما أو أجنبيا وتوفير الميراث لا يمنع قبول الشهادة بدليل قبول شهادة الوارث لموروثه. وتجوز شهادة الرجل لابنه من الرضاعة, وأبيه منها وسائر أقاربه منها لأنه لا نسب بينهما يوجب الإنفاق والصلة, وعتق أحدهما على صاحبه وتبسطه في ماله بخلاف قرابة النسب. قال: [ ولا السيد لعبده, ولا العبد لسيده ] أما شهادة السيد لعبده فغير مقبولة لأن مال العبد لسيده فشهادته له شهادة لنفسه, ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من باع عبدا وله مال فماله للبائع, إلا أن يشترطه المبتاع) ولا نعلم في هذا خلافا ولا تقبل شهادته له أيضا بنكاح ولا لأمته بطلاق لأن في طلاق أمته تخليصها له وإباحة بضعها له, وفي نكاح العبد نفعا له ونفع مال الإنسان نفع له ولا تقبل شهادة العبد لسيده لأنه يتبسط في مال سيده وينتفع به, ويتصرف فيه وتجب نفقته منه ولا يقطع بسرقته, فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه. قال: ولا الزوج لامرأته ولا المرأة لزوجها وبهذا قال الشعبي والنخعي, ومالك وإسحاق وأبو حنيفة وأجاز شهادة كل واحد منهما لصاحبه شريح, والحسن والشافعي وأبو ثور لأنه عقد على منفعة, فلا يمنع قبول الشهادة كالإجارة وعن أحمد رواية أخرى, كقولهم وقال الثوري وابن أبي ليلى: تقبل شهادة الرجل لامرأته لأنه لا تهمة في حقه ولا تقبل شهادتها له لأن يساره وزيادة حقها من النفقة, تحصل بشهادتها له بالمال فهي متهمة لذلك ولنا أن كل واحد منهما يرث الآخر من غير حجب, وينبسط في ماله عادة فلم تقبل شهادته له كالابن مع أبيه ولأن يسار الرجل يزيد نفقة امرأته, ويسار المرأة تزيد به قيمة بضعها المملوك لزوجها فكان كل واحد منهما ينتفع بشهادته لصاحبه فلم تقبل, كشهادته لنفسه ويحقق هذا أن مال كل واحد منهما يضاف إلى الآخر قال الله تعالى:
قال: [ وشهادة الأخ لأخيه جائزة ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة روي هذا عن ابن الزبير وبه قال شريح, وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي, والثوري ومالك والشافعي, وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور, وأصحاب الرأي وحكي عن ابن المنذر عن الثوري أنه لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم وعن مالك, أنه لا تقبل شهادته لأخيه إذا كان منقطعا إليه في صلته وبره لأنه متهم في حقه وقال ابن المنذر: قال مالك: لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النسب وتجوز في الحقوق ولنا عموم الآيات ولأنه عدل غير متهم, فتقبل شهادته له كالأجنبي ولا يصح القياس على الوالد والولد لأن بينهما بعضية وقرابة قوية بخلاف الأخ.
وشهادة العم وابنه والخال وابنه, وسائر الأقارب أولى بالجواز فإن شهادة الأخ إذا أجيزت مع قربه كان تنبيها على شهادة من هو أبعد منه, بطريق الأولى.
وتقبل شهادة أحد الصديقين لصاحبه في قول عامة العلماء إلا مالكا, قال: لا تقبل شهادة الصديق الملاطف لأنه يجر إلى نفسه نفعا بها فهو متهم فلم تقبل شهادته, كشهادة العدو على عدوه ولنا عموم أدلة الشهادة وما قاله يبطل بشهادة الغريم للمدين قبل الحجر, وإن كان ربما قضاه دينه منه فجر إلى نفسه نفعا أعظم مما يرجى ها هنا بين الصديقين فأما العداوة فسببها محظور, وفي الشهادة عليه شفاء غيظه منه فخالفت الصداقة.
قال: [ وتجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود, وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء ] الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة:
في قبول شهادة العبد فيما عدا الحدود والقصاص فالمذهب أنها مقبولة روي ذلك عن علي وأنس رضي الله عنهما قال أنس: ما علمت أن أحدا رد شهادة العبد وبه قال عروة, وشريح وإياس وابن سيرين, والبتي أبو ثور وداود, وابن المنذر وقال عطاء ومجاهد والحسن, ومالك والأوزاعي والثوري, وأبو حنيفة والشافعي وأبو عبيد: لا تقبل شهادته لأنه غير ذي مروءة, ولأنها مبنية على الكمال لا تتبعض فلم يدخل فيها العبد كالميراث وقال الشعبي, والنخعي والحكم: تقبل في الشيء اليسير ولنا عموم آيات الشهادة, وهو داخل فيها فإنه من رجالنا وهو عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره الدينية وروى عقبة بن الحارث, قال: (تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كيف, وقد زعمت ذلك؟) متفق عليه وفي رواية أبي داود (فقلت: يا رسول الله إنها لكاذبة قال: وما يدريك وقد قالت ما قالت, دعها عنك) ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته كالحر ولا نسلم أنه غير ذي مروءة, فإنه كالحر ينقسم إلى من له مروءة ومن لا مروءة له وقد يكون منهم الأمراء والعلماء والصالحون والأتقياء سئل إياس بن معاوية, عن شهادة العبيد فقال: أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب وكان منهم زياد بن أبي زياد مولى ابن عباس من العلماء الزهاد, وكان عمر بن عبد العزيز يرفع قدره ويكرمه ومنهم عكرمة مولى ابن عباس أحد العلماء الثقات وكثير من العلماء الموالى كانوا عبيدا, أو أبناء عبيد لم يحدث فيهم بالإعتاق إلا الحرية والحرية لا تغير طبعا, ولا تحدث علما ولا مروءة ولا يقبل منهم إلا من كان ذا مروءة ولا يصح قياس الشهادة على الميراث, فإن الميراث خلافة للموروث في ماله وحقوقه والعبد لا يمكنه الخلافة لأن ما يصير إليه يملكه سيده فلا يمكن أن يخلف فيه, ولأن الميراث يقتضي التمليك والعبد لا يملك ومبنى الشهادة على العدالة التي هي مظنة الصدق, وحصول الثقة من القول والعبد أهل لذلك فوجب أن تقبل شهادته
أن شهادته لا تقبل في الحد, وفي القصاص احتمالان أحدهما تقبل شهادته فيه لأنه حق آدمي لا يصح الرجوع عن الإقرار به, فأشبه الأموال والثاني لا تقبل لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات فأشبه الحد, وذكر الشريف وأبو الخطاب في العقوبات كلها من الحدود والقصاص روايتين إحداهما, تقبل لما ذكرنا ولأنه رجل عدل فتقبل شهادته فيها, كالحر والثانية لا تقبل وهو ظاهر المذهب لأن الاختلاف في قبول شهادته في الأموال نقص وشبهة فلم تقبل شهادته فيما يدرأ بالشبهات ولأنه ناقص الحال, فلم تقبل شهادته في الحد والقصاص كالمرأة.
شهادة الأمة جائزة فيما تجوز فيه شهادة النساء لأن النساء لا تقبل شهادتهن في الحدود والقصاص وإنما تقبل في المال أو سببه, والأمة كالحرة فيما عداهما فساوتهن في الشهادة وقد دل عليه حديث عقبة بن الحارث.
وحكم المكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق بعضه, حكم القن فيما ذكرنا لأن الرق فيهم وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تجوز شهادة المكاتب , وبه قال عطاء والشعبي والنخعي ولنا, ما ذكرناه في العبد وإذا ثبت الحكم في القن ففي هؤلاء أولى لأنهم أكمل منه, لوجود أسباب الحرية فيهم.
قال: [ وشهادة ولد الزنى جائزة في الزنى وغيره ]. هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والحسن, والشعبي والزهري والشافعي, وإسحاق وأبو عبيد وأبو حنيفة, وأصحابه وقال مالك والليث: لا تجوز شهادته في الزنى وحده لأنه متهم فإن العادة في من فعل قبيحا, أنه يحب أن يكون له نظراء وحكي عن عثمان أنه قال: ودت الزانية أن النساء كلهن زنين ولنا عموم الآيات, وأنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنى فقبل في الزنى كغيره ومن قبلت شهادته في القتل, قبلت في الزنى كولد الرشدة قال ابن المنذر: وما احتجوا به غلط من وجوه أحدها أن ولد الزنى لم يفعل فعلا قبيحا, يحب أن يكون له نظراء فيه والثاني أنني لا أعلم ما ذكر عن عثمان ثابتا عنه وأشبه ذلك أن لا يكون ثابتا عنه, وغير جائز أن يطلق عثمان كلاما بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها تذكره الثالث أن الزاني لو تاب لقبلت شهادته, وهو الذي فعل الفعل القبيح فإذا قبلت شهادته مع ما ذكروه فغيره أولى فإنه لا يجوز أن يلزم ولده من وزره أكثر مما لزمه, وما يتعدى الحكم إلى غيره من غير أن يثبت فيه مع أن ولده لا يلزمه شيء من وزره لقول الله تعالى: قال: [ وإذا تاب القاذف قبلت شهادته ] وجملته أن القاذف إن كان زوجا, فحقق قذفه ببينة أو لعان أو كان أجنبيا فحققه بالبينة أو بإقرار المقذوف, لم يتعلق بقذفه فسق ولا حد ولا رد شهادة, وإن لم يحقق قذفه بشيء من ذلك تعلق به وجوب الحد عليه والحكم بفسقه, ورد شهادته لقول الله تعالى: والقاذف في الشتم ترد شهادته وروايته حتى يتوب, والشاهد بالزنى إذا لم تكمل البينة تقبل روايته دون شهادته وحكي عن الشافعي أن شهادته لا ترد ولنا, أن عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة وقال له: تب أقبل شهادتك وروايته مقبولة, ولا نعلم خلافا في قبول رواية أبي بكرة مع رد عمر شهادته. قال: [ وتوبته أن يكذب نفسه ] ظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف إكذاب نفسه, فيقول: كذبت فيما قلت وهذا منصوص الشافعي واختيار الإصطخري من أصحابه قال ابن عبد البر: وممن قال هذا سعيد بن المسيب وعطاء, وطاوس والشعبي وإسحاق, وأبو عبيد وأبو ثور لما روى الزهري, عن سعيد بن المسيب عن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه قال في قوله تعالى: وكل ذنب تلزم فاعله التوبة منه، ومتى تاب منه، قبل الله توبته؛ بدليل قوله تعالى: ظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة, من قبول الشهادة وصحة ولايته في النكاح إصلاح العمل وهو أحد القولين للشافعي, وفي القول الآخر يعتبر إصلاح العمل إلا أن يكون ذنبه الشهادة بالزنى, ولم يكمل عدد الشهود فإنه يكفي مجرد التوبة من غير اعتبار إصلاح وما عداه فلا تكفي التوبة حتى تمضي عليه سنة, تظهر فيها توبته ويتبين فيها صلاحه وذكر أبو الخطاب هذا رواية لأحمد لأن الله تعالى قال:
قال: [ ومن شهد بشهادة قد كان شهد بها وهو غير عدل وردت عليه لم تقبل منه في حال عدالته ] وجملته أن الحاكم إذا شهد عنده فاسق, فرد شهادته لفسقه ثم تاب وأصلح وأعاد تلك الشهادة, لم يكن له أن يقبلها وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور والمزني, وداود: تقبل قال ابن المنذر: والنظر يدل على هذا لأنها شهادة عدل فتقبل كما لو شهد وهو كافر فردت شهادته, ثم شهد بها بعد إسلامه ولنا أنه متهم في أدائها لأنه يعير بردها ولحقته غضاضة لكونها ردت بسبب نقص يتعير به, وصلاح حاله بعد ذلك من فعله يزول به العار فتلحقه التهمة في أنه قصد إظهار العدالة وإعادة الشهادة لتقبل, فيزول ما حصل بردها ولأن الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد فعند ذلك نقول: شهادة مردودة بالاجتهاد, فلا تقبل بالاجتهاد لأن ذلك يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وفارق ما إذا ردت شهادة كافر لكفره أو صبي لصغره أو عبد لرقه, ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي وعتق العبد, وأعادوا تلك الشهادة فإنها لا ترد لأنها لم ترد أولا بالاجتهاد وإنما ردت باليقين, ولأن البلوغ والحرية ليسا من فعل الشاهد فيتهم في أنه فعلهما لتقبل شهادته والكافر لا يرى كفره عارا, ولا يترك دينه من أجل شهادة ردت عليه وقد روي عن النخعي والزهري وقتادة, وأبي الزناد ومالك أنها ترد أيضا في حق من أسلم وبلغ, وعن أحمد رواية أخرى كذلك لأنها شهادة مردودة فلم تقبل, كشهادة من كان فاسقا وقد ذكرنا ما يقتضي فرقا بينهما فيفرقان وروي عن أحمد في العبد إذا ردت شهادته لرقه ثم عتق, وادعى تلك الشهادة روايتان وقد ذكرنا أن الأولى أن شهادته تقبل لأن العتق من غير فعله وهو أمر يظهر, بخلاف الفسق.
وإن شهد السيد لمكاتبه فردت شهادته أو شهد وارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال فردت شهادته, ثم عتق المكاتب وبرأ الجرح وأعادوا تلك الشهادة, ففي قبولها وجهان أحدهما تقبل لأن زوال المانع ليس من فعلهم فأشبه زوال الصبي بالبلوغ, ولأن ردها بسبب لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها بخلاف الفسق والثاني, لا تقبل لأنه ردها باجتهاده فلا ينقضها باجتهاده والأول أشبه بالصحة فإن الأصل قبول شهادة العدل, ما لم يمنع منه مانع ولا يصح القياس على الشهادة المردودة للفسق لما ذكرنا بينهما من الفرق ويخرج على هذا كل شهادة مردودة إما للتهمة أو لعدم الأهلية, إذا أعادها بعد زوال التهمة ووجود الأهلية فهل تقبل؟ على وجهين.
قال: [ وإن كان لم يشهد بها عند الحاكم, حتى صار عدلا قبلت منه ] وذلك لأن التحمل لا تعتبر فيه العدالة ولا البلوغ, ولا الإسلام لأنه لا تهمة في ذلك وإنما يعتبر ذلك في الأداء فإذا رأى الفاسق شيئا, أو سمعه ثم عدل وشهد به, قبلت شهادته بغير خلاف نعلمه وهكذا الصبي, والكافر إذا شهدا بعد الإسلام والبلوغ قبلت وكذلك الرواية ولذلك كان الصبيان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- يروون عنه بعد أن كبروا كالحسن والحسين, وابن عباس والنعمان بن بشير وابن الزبير, وابن جعفر والشهادة في معنى الرواية ولذلك اعتبرت لها العدالة وغيرها من الشروط المعتبرة للشهادة.
قال: [ ولو شهد وهو عدل, فلم يحكم بشهادته حتى حدث منه ما لا تجوز شهادته معه لم يحكم بها ] وجملة ذلك أن الشاهدين إذا شهدا عند الحاكم وهما ممن تقبل شهادته, ولم يحكم بها حتى فسقا أو كفرا لم يحكم بشهادتهما وبهذا قال أبو يوسف, والشافعي وقال أبو ثور والمزني: يحكم بها لأن بقاء أهلية الشهادة ليس شرطا في الحكم بدليل ما لو ماتا ولأن فسقهما تجدد بعد أداء الشهادة فأشبه ما لو تجدد بعد الحكم بها ووجه ذلك من طريقين أحدهما, أن عدالة الشاهد شرط للحكم فيعتبر دوامها إلى حين الحكم لأن الشروط لا بد من وجودها في المشروط وإذا فسق انتفى الشرط فلم يجز الحكم والثاني, أن ظهور فسقه وكفره يدل على تقدمه لأن العادة أن الإنسان يسر الفسق ويظهر العدالة, والزنديق يسر كفره ويظهر إسلامه فلا نأمن كونه كافرا أو فاسقا حين أداء الشهادة, فلم يجز الحكم بها مع الشك فيها فأما إن حدث هذا منه بعد الحكم بشهادته لم ينقض لأن الحكم وقع صحيحا, لاستمرار شرطه إلى انتهائه ولأنه قد وجد مقرونا بشرطه ظاهرا فلا ينقض بالشك كما لو رجع عن الشهادة, وكما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء لكن إن كان ذلك قبل الاستيفاء, وكان حدا لله تعالى لم يجز استيفاؤه بالشبهات لأنه يدرأ وهذا شبهة فيه, فأشبه ما لو رجع عن الإقرار به قبل استيفائه وإن كان مالا استوفى لأن الحكم قد تم وثبت الاستحقاق بأمر ظاهر الصحة فلا يبطل بأمر محتمل, ولذلك لم يبطل رجوعه عن إقراره وإن كان حد قذف أو قصاصا احتمل وجهين أحدهما يستوفى وهذا قول أبي حنيفة لأنه حق آدمي مطالب به, أشبه المال والثاني لا يستوفى وهذا قول محمد لأنه عقوبة على البدن تدرأ بالشبهات, أشبه الحد وللشافعي وجهان كهذين وأما ما حدث بعد الاستيفاء فلا يؤثر في حد ولا حق لأن الحق استوفى بما ظاهره الصحة, وسوغ الشرع استيفاءه فلم يؤثر فيه ما طرأ بعده كما لو لم يظهر شيء.
فأما إن أديا الشهادة, وهما من أهلها ثم ماتا قبل الحكم بها حكم الحاكم بشهادتهما, سواء ثبتت عدالتهما في حياتهما أو بعد موتهما وسواء كان المشهود به حدا أو غيره وكذلك إن جنوا, أو أغمي عليهم وبهذا قال الشافعي لأن الموت لا يؤثر في شهادته ولا يدل على الكذب فيها ولا يحتمل أن يكون موجودا حال أداء الشهادة والجنون والإغماء في معناه, بخلاف الفسق والكفر.
قال: [ وشهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا ] الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة: أحدها: في جوازها والثاني, في موضعها والثالث في شرطها
فإن الشهادة على الشهادة جائزة بإجماع العلماء وبه يقول مالك, والشافعي وأصحاب الرأي قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال ولأن الحاجة داعية إليها, فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الوقف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم يموت شهوده وفي ذلك ضرر على الناس, ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل.
أنها تقبل في الأموال, وما يقصد به المال بإجماع كما ذكر أبو عبيد, ولا تقبل في حد وهذا قول النخعي والشعبي وأبي حنيفة, وأصحابه وقال مالك والشافعي في قول وأبو ثور: تقبل في الحدود, وكل حق لأن ذلك يثبت بشهادة الأصل فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال ولنا, أن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار, والشهادة على الشهادة فيها شبهة فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد, لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل, فوجب أن لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات ولأنها إنما تقبل للحاجة ولا حاجة إليها في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه, ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على الأموال لما بينهما من الفرق في الحاجة والتساهل فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا من الفرق, فبطل إثباتها وظاهر كلام أحمد أنها لا تقبل في القصاص أيضا ولا حد القذف لأنه قال: إنما تجوز في الحقوق, أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة وقال مالك والشافعي وأبو ثور: تقبل وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله: في كل شيء إلا في الحدود لأنه حق آدمي, لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به ولا يستحب ستره فأشبه الأموال وذكر أصحابنا هذا رواية عن أحمد لأن ابن منصور نقل أن سفيان قال: شهادة رجل مكان رجل في الطلاق جائزة قال أحمد: ما أحسن ما قال فجعله أصحابنا رواية في القصاص وليس هذا برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة بدنية, تدرأ بالشبهات وتبنى على الإسقاط فأشبهت الحدود, فأما ما عدا الحدود والقصاص والأموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت إلا بشاهدين, فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فيدل على قبولها في جميع هذه الحقوق وهو قول الخرقي وقال ابن حامد: لا تقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل إلا في المال, وما يقصد به المال وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول أنه حق لا يدرأ بالشبهات, فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود.
في شروطها, ولها أربعة شروط أحدها أن تتعذر شهادة الأصل لموت أو غيبة, أو مرض أو حبس أو خوف من سلطان أو غيره وبهذا قال مالك, وأبو حنيفة والشافعي وحكي عن أبي يوسف ومحمد, جوازها مع القدرة على شهادة الأصل قياسا على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل لأنهما إذا كانا حيين, رجي حضورهما فكانا كالحاضرين وعن أحمد مثل هذا إلا أن القاضي تأوله على الموت, وما في معناه من الغيبة البعيدة ونحوها ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا فيزول هذا الخلاف ولنا على اشتراط تعذر شهادة شاهد الأصل, أنه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل استغني عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع وكان أحوط للشهادة, فإن سماعه منهما معلوم وصدق شاهدي الفرع مظنون والعمل باليقين مع إمكانه أولى من اتباع الظن, ولأن شهادة الأصل تثبت نفس الحق وهذه إنما تثبت الشهادة عليه ولأن في شهادة الفرع ضعفا لأنه يتطرق إليها احتمالان احتمال غلط شاهدي الأصل, واحتمال غلط شاهدي الفرع فيكون ذلك وهنا فيها ولذلك لم تنتهض لإثبات الحدود والقصاص, فينبغي أن لا تثبت إلا عند عدم شاهدي الأصل كسائر الأبدال ولا يصح قياسها على أخبار الديانات لأنه خفف فيها, ولهذا لا يعتبر فيها العدد ولا الذكورية ولا الحرية, ولا اللفظ والحاجة داعية إليها في حق عموم الناس بخلاف مسألتنا ولنا, على قبولها عند تعذرها بغير الموت أنه تعذرت شهادة الأصل فتقبل شهادة الفرع, كما لو مات شاهدا الأصل ويخالف الحاضرين فإن سماع شهادتهما ممكن فلم يجز غير ذلك إذا ثبت هذا, فذكر القاضي أن الغيبة المشترطة لسماع شهادة الفرع أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكنه أن يشهد ثم يرجع من يومه وهذا قاله أبو يوسف وأبو حامد من أصحاب الشافعي لأن الشاهد تشق عليه المطالبة بمثل هذا السفر, وقد قال الله تعالى: فأما كيفية الأداء إذا كان قد استرعاه الشهادة, فإنه يقول: أشهد أن فلان بن فلان وقد عرفته بعينه واسمه ونسبه وعدالته أشهدني أنه يشهد أن لفلان بن فلان, على فلان بن فلان كذا وكذا أو أن فلانا أقر عندي بكذا وإن لم يعرف عدالته لم يذكرها وإن سمعه يشهد غيره, قال: أشهد أن فلان بن فلان أشهد على شهادته أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان, كذا وكذا وإن كان سمعه يشهد عند الحاكم قال: أشهد أن فلان بن فلان شهد على فلان بن فلان عند الحاكم بكذا وإن كان نسب الحق إلى سببه, قال: أشهد أن فلان بن فلان قال: أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا من جهة كذا وكذا وإذا أراد الحاكم أن يكتب ذلك, كتبه على ما ذكرنا في الأداء. واختلفت الرواية في شرط خامس وهو الذكورية في شهود الفرع فعن أحمد, أنها شرط فلا يقبل في شهود الفرع نساء بحال سواء كان الحق مما تقبل فيه شهادة النساء, أو لا وهذا قول مالك والثوري والشافعي لأنهم يثبتون بشهادتهم شهادة شهود الأصل دون الحق وليس ذلك بمال, ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال فأشبه القصاص والحد والثانية, للنساء مدخل فيما لو كان الشهود به يثبت بشهادتهن في الأصل قال حرب: قيل لأحمد: فشهادة امرأتين على شهادة امرأتين تجوز؟ قال: نعم يعني إذا كان معهما رجل وذكر الأوزاعي قال: سمعت نمير بن أوس يجيز شهادة المرأة على شهادة المرأة ووجهه, أن المقصود بشهادة الفروع إثبات الحق الذي يشهد به شهود الأصل فقبلت فيه شهادتهن, كالبيع ويفارق الحد والقصاص فإنه ليس القصد من الشهادة به إثبات مال بحال فأما شهود الأصل فيدخل النساء فيه فيجوز أن يشهد رجلان على شهادة رجل وامرأتين, في كل حق يثبت بشهادتهن مع الرجال في قول أكثر أهل العلم وذكر أبو الخطاب في المنع منه رواية أخرى لأن في الشهادة على الشهادة ضعفا لما ذكرنا من قبل فلا مدخل للنساء فيها لأنها تزداد بشهادتهن ضعفا ولنا, أن شهود الفرع إن كانوا يثبتون شهادة الأصل فهي تثبت بشهادتهم وإن كانوا يثبتون نفس الحق, فهي تثبت بشهادتهم ولأن النساء شهدن بالمال أو ما يقصد به المال, فيثبت بشهادتهن كما لو أدينها عند الحاكم وما ذكر للرواية الأخرى لا أصل له.
فصل: ويجوز أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل شاهد فرع, فيشهد شاهدا فرع على شاهدي أصل قال القاضي: لا يختلف كلام أحمد في هذا وهو قول شريح والشعبي والحسن, وابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري, وإسحاق والبتي والعنبري, ونمير بن أوس قال إسحاق: لم يزل أهل العلم على هذا حتى جاء هؤلاء وقال أحمد: وشاهد على شاهد يجوز لم يزل الناس على ذا شريح فمن دونه, إلا أن أبا حنيفة أنكره وذهب أبو عبد الله بن بطة إلى أنه لا يقبل على كل شاهد أصل إلا شاهدا فرع وهذا قول أبي حنيفة ومالك, والشافعي لأن شاهدي الفرع يثبتان شهادة شاهدي الأصل فلا تثبت شهادة كل واحد منهما بأقل من شاهدين كما لا يثبت إقرار مقرين بشهادة اثنين, يشهد على كل واحد منهما واحد ولنا أن هذا يثبت بشاهدين وقد شهد اثنان بما يثبته, فيثبت كما لو شهدا بنفس الحق ولأن شاهدي الفرع بدل من شهود الأصل, فيكفي في عددها ما يكفى في شهادة الأصل ولأن هذا إجماع على ما ذكره أحمد وإسحاق, ولأن شاهدي الفرع لا ينقلان عن شاهدي الأصل حقا عليهما فوجب أن يقبل فيه قول واحد كأخبار الديانات, فإنهم إنما ينقلون الشهادة وليست حقا عليهم ولهذا لو أنكراها لم يعد الحاكم عليهما, ولم يطلبها منهما وهذا الجواب عما ذكروه فإذا ثبت هذا فمن اعتبر لكل شاهد أصل شاهدي فرع أجاز أن يشهد شاهدان على كل واحد من شاهدي الأصل وبهذا قال مالك, وأصحاب الرأي قال الشافعي: ورأيت كثيرا من الحكام والمفتين يجيزه وخرجه على قولين أحدهما جوازه والآخر لا يجوز حتى يكون شهود الفرع أربعة, على كل شاهد أصل شاهدا فرع واختاره المزني لأن من يثبت به أحد طرفي الشهادة لا يثبت به الطرف الآخر كما لو شهد أصل مع شاهد, ثم شهد مع آخر على شهادة شاهد الأصل الآخر ولنا أنهما شهدا على قولين فوجب أن يقبل, كما لو شهدا بإقرارين بحقين أو بإقرار اثنين وإنما لم يجز أن يشهد شاهد الأصل فرعا لأنه يؤدي إلى أن يكون بدل أصلا في شهادة بحق وذلك لا يجوز, ولأنهم يثبتون بشهادتهم شهادة الأصل وليست شهادة أحدهم ظرفا لشهادة الآخر فعلى قول الشافعي أن يثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين, وجب أن يكون شهود الفرع ستة وإن كان حق يثبت بأربع نسوة فوجب أن يكون شهود الفرع ثمانية, وإن كان المشهود به زنا خرج فيه خمسة أقوال أحدها لا مدخل لشهادة الفرع في إثباته والثاني, يجوز ويجب أن يكون شهود الفرع ستة عشر فيشهد على شهادة كل واحد من شهود الأصل أربعة الثالث, يكفي ثمانية والرابع يكونون أربعة يشهدون على كل واحد والخامس, يكفي شاهدان يشهدان على كل واحد من شهود الأصل وهذا إثبات لحد الزنى بشاهدين وهو بعيد. وإن شهد بالحق شاهدا أصل وشاهدا فرع, يشهدان على شهادة أصل آخر جاز وإن شهد شاهد أصل وشاهد فرع, خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا من قبل وإن شهد شاهد أصل ثم شهد هو وآخر فرعا على شاهد أصل آخر, لم تفد شهادته الفرعية شيئا وكان حكم ذلك حكم ما لو شهد على شهادته شاهد واحد. قال: [ ويشهد على من سمعه يقر بحق وإن لم يقل للشاهد: اشهد على ] اختلفت الرواية عن أحمد, في هذه المسألة فالمذهب ما ذكره الخرقي وبه قال الشعبي, والشافعي وعن أحمد رواية ثانية لا يشهد حتى يقول له المقر: اشهد على كما أنه لا يجوز أن يشهد على شهادة رجل حتى يسترعيه إياها, ويقول له: اشهد على شهادتي وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض, لا يشهد وإذا سمعه يقر بدين يشهد لأن المقر بالدين معترف أنه عليه, والمقر بالقرض لا يعترف بذلك لجواز أن يكون اقترض منه ثم وفاه, وعنه رواية رابعة إذا سمع شيئا فدعي إلى الشهادة, فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد قال: ولكن يجب عليه إذا أشهد إذا دعى
ولو حضر شاهدان حسابا بين اثنين شرطا عليهما أن لا يحفظا عليهما شيئا, كان للشاهدين أن يشهدا بما سمعاه منهما ولم يسقط ذلك شرطهما لأن للشاهد أن يشهد بما سمعه أو علمه وذلك قد حصل له, سواء أشهده أو سمعه وكذلك يشهدان على العقود بحضورها وعلى الجنايات بمشاهدتها, ولا يحتاجان إلى إشهاد وبهذا قال ابن سيرين ومالك والثوري, والشافعي.
والحقوق على ضربين : أحدهما حق لآدمي معين كالحقوق المالية, والنكاح وغيره من العقود والعقوبات كالقصاص, وحد القذف والوقف على آدمي معين فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد الدعوى لأن الشهادة فيه حق لآدمي, فلا تستوفى إلا بعد مطالبته وإذنه ولأنها حجة على الدعوى ودليل لها فلا يجوز تقدمها عليها الضرب الثاني, ما كان حقا لآدمي غير معين كالوقف على الفقراء والمساكين أو جميع المسلمين, أو على مسجد أو سقاية أو مقبرة مسبلة أو الوصية لشيء من ذلك, ونحو هذا أو ما كان حقا لله تعالى كالحدود الخالصة لله تعالى, أو الزكاة أو الكفارة فلا تفتقر الشهادة به, إلى تقدم الدعوى لأن ذلك ليس له مستحق معين من الآدميين يدعيه ويطالب به ولذلك شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة, وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر وشهد الذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر أيضا من غير تقدم دعوى, فأجيزت شهادتهم ولذلك لم يعتبر في ابتداء الوقف قبول من أحد, ولا رضي منه وكذلك ما لا يتعلق به حق أحد الغريمين كتحريم الزوجة بالطلاق أو الظهار, أو إعتاق الرقيق تجوز الحسبة به ولا تعتبر فيه دعوى ولو شهد شاهدان بعتق عبد أو أمة ابتداء, ثبت ذلك سواء صدقهما المشهود بعتقه أو لم يصدقهما وبهذا قال الشافعي وبه قال أبو حنيفة في الأمة وقال في العبد: لا يثبت, ما لم يصدق العبد به ويدعيه لأن العتق حقه فأشبه سائر حقوقه ولنا, أنها شهادة بعتق فلا تفتقر إلى تقدم الدعوى كعتق الأمة, ويخالف سائر الحقوق لأنه حق لله تعالى ولهذا لا يفتقر إلى قبول العتق ودليل ذلك الأمة وما ذكروه يبطل بعتق الأمة فإن قيل: الأمة يتعلق بإعتاقها تحريم الوطء قلنا: هذا لا أثر له فإن المنع يوجب تحريمها عليه, ولا تسمع الشهادة به إلا بعد الدعوى.
ومن كانت عنده شهادة لآدمي لم يخل إما أن يكون عالما بها أو غير عالم, فإن كان عالما بها لم يجز للشاهد أداؤها حتى يسأله ذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون ويشهدون ولا يستشهدون, ويخونون ولا يؤتمنون) رواه البخاري ولأن أداءها حق للمشهود له فلا يستوفى إلا برضاه كسائر حقوقه وإن كان المشهود له غير عالم بها جاز للشاهد أداؤها قبل طلبها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) رواه مسلم, وأبو داود ومالك وقال مالك: هو " الذي يأتي بشهادته ولا يعلم بها الذي هي له " وهذا الحديث وإن كان مطلقا, فإنه يتعين حمله على هذه الصور جمعا بين الحديثين ولأنه إذا لم يكن عالما بها فتركه طلبها لا يدل على أنه لا يريد إقامتها, بخلاف العالم بها وهذا مذهب الشافعي.
ويعتبر لفظ الشهادة في أدائها فيقول: أشهد أنه أقر بكذا ونحوه ولو قال: أعلم أو أحق, أو أتيقن أو أعرف لم يعتد به لأن الشهادة مصدر شهد يشهد شهادة فلا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها, ولأن فيها معنى لا يحصل في غيرها من اللفظات بدليل أنها تستعمل في اليمين فيقال: أشهد بالله ولهذا تستعمل في اللعان ولا يحصل ذلك من غيرها وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا.
قال: [ وتجوز شهادة المستخفي, إذا كان عدلا ] المستخفي: هو الذي يخفي
|